اعتقالات السلطة الفلسطينية وإغلاق الجزيرة- تقاسم وظائف أم خدمة للاحتلال؟

المؤلف: د. عمار علي حسن09.22.2025
اعتقالات السلطة الفلسطينية وإغلاق الجزيرة- تقاسم وظائف أم خدمة للاحتلال؟

إن توقيف الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية لمراسل قناة "الجزيرة"، الصحفي محمد الأطرش، وإحالته إلى محكمة الخليل، لا يمكن فهمه بمعزل عن الخلفية السياسية التي تعمل في نطاقها هذه السلطة. هذه الخلفية تتأرجح بين تقاسم الأدوار والمسؤوليات مع الاحتلال الإسرائيلي، والتحايل عليه على أمل تفادي الأذى أو كسب بعض الوقت في مواجهة حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة تسعى جاهدة للتوسع في بناء المستوطنات في الضفة الغربية، بل وتطرح أحياناً فكرة تهجير الفلسطينيين قسرياً من أراضيهم.

تتجسد صور وأساليب مجاراة السلطة الفلسطينية لحكومة بنيامين نتنياهو في عدة ممارسات، بدءًا من اعتقال النشطاء والمقاومين في مختلف مدن وبلدات ومخيمات الضفة الغربية، مروراً بإغلاق الطرق المؤدية إلى المخيمات الفلسطينية التي تقاوم الاحتلال، وصولاً إلى المساهمة في تشويه صورة المقاومة والتقليل من شأنها ووصف أفعالها بالعبثية واللامسؤولة، وذلك في ظل التداعيات السلبية للانقسام الفلسطيني الذي تعمق منذ عام 2005، وفي خضم التنافس المحموم على تمثيل الشعب الفلسطيني في الأرض المحتلة تمثيلاً حقيقياً وليس مجرد تمثيل شكلي.

وتجسد هذا النهج أيضاً في خدمة الاحتلال بالتعتيم الإعلامي على الجرائم والانتهاكات التي يرتكبها بحق الفلسطينيين في الضفة الغربية، وهو التوجه الذي أدى في مطلع يناير/كانون الثاني الجاري إلى اتخاذ السلطة الفلسطينية قراراً بوقف بث قناة الجزيرة وتجميد جميع أنشطتها، مع توجيه اتهامات لها بـ "التحريض على التمرد".

وما أقدمت عليه السلطة الفلسطينية تجاه الإعلام لا يختلف كثيراً عما فعلته إسرائيل في 22 سبتمبر/أيلول الماضي، عندما قامت بإغلاق مكاتب قناتي الجزيرة (العربية والإنجليزية) الإخباريتين في مدينة رام الله، وذلك بعد اقتحامها ومصادرة جميع محتوياتها ومنع موظفيها من ممارسة عملهم، بعد حملة تحريض شرسة، علماً بأنها كانت قد أغلقت في وقت سابق مكتب القناة في مدينة القدس المحتلة بعد قيامها باغتيال مراسليها في قطاع غزة.

كل هذه التطورات تثير تساؤلاً جوهرياً حول الدوافع والأهداف الكامنة وراء الموقف الحالي للسلطة الفلسطينية، والذي يواجه انتقادات لاذعة واعتراضات واسعة من مختلف فصائل المقاومة الفلسطينية، ومن نشطاء سياسيين لا يوافقون على سياسات الرئيس محمود عباس (أبو مازن)، ومن مثقفين فلسطينيين مستقلين أو مناهضين للاحتلال ويدعمون مشروع المقاومة.

وبأخذنا في الاعتبار وجهات نظر مختلف الأطراف المعنية، وطبيعة الظروف الراهنة، يمكننا شرح هذه الأسباب والدوافع والأهداف في النقاط التالية:

1- الانخراط التدريجي، بل والتورط الفعلي للسلطة الفلسطينية في نمط من "تقاسم الأدوار" مع الاحتلال الإسرائيلي، وهو ما تغذيه مصالح اقتصادية متبادلة من خلال شبكات واسعة من أصحاب النفوذ والمصالح في أوساط الفلسطينيين، والذين يعتمدون على تجارة السلع والخدمات وتلقي المساعدات الخارجية التي تمكن السلطة من دفع رواتب موظفيها وقوات أمنها. هذا التورط يشتد بسبب تصورات سياسية خاطئة تدعي أن التفاوض، رغم فشله المتكرر وفقدانه لجدواه بمرور الوقت، لا يزال من الممكن أن يؤدي إلى تحقيق بعض المكاسب، اعتماداً على ما تم التوصل إليه في اتفاق أوسلو عام 1993، والذي رفضت إسرائيل تنفيذ مرحلته النهائية المتعلقة بالسيادة والمياه ووضع القدس، بل عملت على إفراغ ما حققه الفلسطينيون بموجب هذا الاتفاق من خلال ممارسة الضغوط المتواصلة، والتضييق المستمر، والتنكر الدائم للحقوق الفلسطينية، والاعتداء المتكرر على سكان الضفة الغربية، والاستمرار في التوسع الاستيطاني، واقتطاع أموال بشكل متكرر من مخصصات السلطة الفلسطينية، أو ربط دفع هذه الأموال بشروط قاسية، مما أضعف بشكل تدريجي من قدرة السلطة وهيبتها ووظيفتها وفوائدها.

2- ربما تُقدر السلطة الفلسطينية الاختلال الدائم والمزمن في ميزان القوة بين الفلسطينيين والجيش الإسرائيلي، وهو ما يبرر لها، في نظرها، القبول بالأمر الواقع، والتحلي بالصبر على المصاعب، وتضفي على هذا القبول غطاءً مفاده أنها تستجيب لمطلب قطاع واسع من الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين يخشون الانزلاق إلى مواجهة مفتوحة مع إسرائيل، والتي قد تؤدي إلى تعميق الأذى الذي يلحق بهم ليبلغ حد "الإبادة الجماعية" على غرار ما حدث في قطاع غزة.

3- تنظر السلطة الفلسطينية إلى حركة المقاومة في الضفة الغربية بعين الريبة والشك، وغالباً ما تربطها بحركتي حماس والجهاد الإسلامي، أو أنها على الأقل تقدر مدى تأثرها بالنهج الذي تتبعه الحركتان، ومعهما فصائل المقاومة الفلسطينية الأخرى، والذي يميل إلى الكفاح المسلح باعتباره الوسيلة الوحيدة الناجعة لتحقيق الحقوق الفلسطينية المسلوبة والمؤجلة.

فمثل هذا الارتباط أو حتى التأثر يعني ببساطة سحب البساط من تحت أقدام السلطة الفلسطينية، وبالتالي تجد هذه السلطة في إسرائيل سنداً وعوناً لها، كي تحافظ على مواقعها ومنافعها، على الرغم من أن تل أبيب تسعى في حقيقة الأمر إلى إنهاء وجود هذه السلطة من الأساس.

4- تعتبر السلطة الفلسطينية أنها لا تملك القدرة على التنصل من الالتزامات التي تقيدها بوصفها الطرف الذي صنعته الاتفاقات الموقعة مع إسرائيل برعاية دولية وموافقة إقليمية رسمية، وبالتالي فهي المسؤولة أمام المجتمع الدولي عن تمثيل الفلسطينيين والسيطرة عليهم، إذا كانت تريد لإسرائيل والعالم الخارجي أن يتعاملوا معها، ويستمروا في الاعتراف بها حتى في ظل ضعفها وعجزها عن حماية الشعب الفلسطيني.

5- تفتقد السلطة الفلسطينية إلى أي رؤية مستقبلية أو طموح حقيقي يمكنها من منازعة إسرائيل أو مواجهتها، لا سيما في ظل شيخوختها السياسية المزمنة، ولذلك فإنها تعمل دائماً على تجنب كل ما يثير غضب تل أبيب، وكل ما من شأنه أن يسهم في تحقيق الرغبة الدفينة والمتجذرة في العقيدة الدينية والسياسية الإسرائيلية، والتي تجعلها تنظر إلى الضفة الغربية بعين الطمع والجشع أكثر من نظرتها إلى قطاع غزة.

لكن هذه الرؤية التي تتبناها السلطة الفلسطينية تبدو قاصرة وضيقة الأفق إلى حد بعيد، فسعي هذه السلطة إلى المهادنة والاستسلام لم يجعل إسرائيل تتعامل مع سكان الضفة الغربية بطريقة مختلفة عن تعاملها مع الغزاويين، فقبل اندلاع "طوفان الأقصى" وقبله، لم يمر أسبوع واحد إلا وألحق فيه جيش إسرائيل وشرطتها وأجهزتها الأمنية الأذى بالفلسطينيين في الضفة، بما في ذلك داخل مدينة رام الله (مقر السلطة الفلسطينية)، من قتل واعتقالات وهدم للمنازل وتجريف للأراضي الزراعية أو الاستيلاء عليها لبناء المستوطنات على أنقاضها.

ومما يزيد الطين بلة أن التصرفات الأمنية الأخيرة للسلطة الفلسطينية، والتي تتجلى في اعتقال النشطاء والمقاومين والإعلاميين، تأتي في وقت تستعد فيه إسرائيل لإرسال فرقة عسكرية كاملة لاجتياح مدينة جنين ومخيمها.

وما جعل السلطة الفلسطينية تبدو متوافقة ومنسجمة بشكل أكبر مع نوايا الاحتلال ومراميه، هو تلك الاشتباكات المتواصلة التي تجري منذ أسابيع بين قوات الأمن التابعة لهذه السلطة ومسلحين في مدينة جنين، ينتمي معظمهم إلى حركتي الجهاد الإسلامي وحماس، وفي الوقت نفسه تعمل السلطة على كتم الحقيقة وإخفائها، وذلك "في وقت أحوج ما يكون فيه الشعب الفلسطيني إلى صوت مسموع يوصل معاناته للعالم"، حسب البيان الصادر عن حركة الجهاد الإسلامي.

إن نتنياهو، الذي أُجبر على قبول الهدنة في قطاع غزة، لم يتخل بعد عن أهمية استمرار الحرب بالنسبة له شخصياً من أجل النجاة من العقاب الذي ينتظره، وأيضاً بالنسبة لتحالفه اليميني المتطرف، الذي لم يكن بعض رموزه يرغبون في وقف القتال في قطاع غزة، وبالتالي فإنه سيعمل جاهداً على توسيع نطاق الحرب والقتال في الضفة الغربية، ليس في جنين وحدها، بل في مناطق أخرى، وعندها قد يدرك أولئك الذين كتموا صوت الفلسطينيين ومنعوا معاناتهم من الوصول إلى العالم عبر وسائل الإعلام، والذين شاركوا في مطاردة مقاومي الضفة الغربية، أنهم قد ارتكبوا خطأ جسيماً في حق الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة